وهمٌ يُباع..وهمٌ يُشترى..وهمٌ يُقتات به
د. سارة بنت عبدالمحسن
زوار : 1325  -   7/2/2007
 
 

     كثيرة هي الإحباطات التي تحاصرنا في الزمان ، وفي المكان ، وفي الأشخاص ، وفي المبادئ  ، وتطبق علينا الخناق حتى تحصرنا داخل بوتقة أفكارنا  ، فنعزف عن الكلام ، وعن الكتابة ، وعن الحوار ، و يستولي علينا شعور بعدم جدوى أي شيء ، حين نكتشف بأن الوهم يغلف كثيراً مما اعتقدنا بأنه حقائق ، فننظر إلى العالم حولنا ، ونرقب ما فيه بصمت مستسلم لوطأة الصدمة ، و ضيق الحصار .
   نطبق الشفاه ، ونلقي بالقلم بعيداً ، ونعتكف داخل مبادئنا التي آمنا بها ، وقيمنا التي تمسكنا بها ، وعشنا بها ولها ، وحاربنا لأجلها ، وحُوربنا كثيراً  ، لعنا نحتمي بها ، أو نحميها من أن تغتال فينا بطوفان ( تجارة ) الوهم الذي يغرق كل شيء .
   من أعماق الإحباط الذي يكتنف ما حولنا كله ينطلق صوتي ، ويجري قلمي لينقل لكم صوراً من تجارة يباع فيه الوهم ويشترى ليقتات به في زمن قحط الصدق .

 مقارنة في لحظة إحباط صامتة  ..
     كلام .. كلام .. كلام .. كثير هو الكلام الذي يقال في الدروس ، وفي المحاضرات ، وفي الندوات ، وفي المؤتمرات ، وفي الملتقيات الثقافية ، وفي التصريحات ، والمقابلات ، والمقالات عبر وسائل الإعلام المختلفة  .. كلام كثير .. كثير جداً ، أتقن فيه فن الحديث ،  وأساليب التلاعب بالعبارات ،واستخدام الألفاظ الطنانة ، والشعارات البراقة ، والتزين أمام عدسات المصورين .
ثم ماذا بعد ..؟؟؟  هل أبالغ إن قلت لاشيء ..! 
  فعلى الرغم من كثرة الكلام ، والمؤتمرات ، والندوات ، والملتقيات ، إلا أن المحصلة تكاد أن تكون لاشيء !!! فهذا الزخم الهائل من الكلام ، والنتائج ، والتوصيات ، يموت في المكان الذي قيل فيه ، ويدفن بين طيات الصحائف التي كتب عليها ، ليبتلعه زمن النسيان .! دون أن يكون لها ذلك التأثير الحقيقي الواضح الفّعال الذي يدفع بنا في خطوات ثابتة جادة في طريق الإصلاح وتغيير واقعنا بصورة صحيحة سليمة موافقة لمنهاج الله .
  فما يقال ، وما يقدم كله لا يتجاوز حدود المكان الذي قيل فيه ، والصحائف التي دون عليها، والضجة الإعلامية التي صاحبته .. فنحن أمة تعشق الأضواء ، وتداعب الإعلام ، وتركض خلف بريق الشهرة ، والألقاب الخادعة .
      وفي المقابل هنالك أمة صغيرة الحجم ، قليلة العدد ، قليلة الكلام ، دائبة الفعل ، لا تكاد تسمع لهم تصريحاً ، ولا ترى لهم مؤتمراً ، أو ندوة ، لكنهم لا تهدأ لهم حركة ، ولا يخيب لهم تخطيط قوم يعملون بصمت ، ويتحركون بهدوء ، ويسيرون وفق منهاج محدد دقيق بخطواته ، وأزمنته ، لا يهتمون بالظهور ، ولا يسعون وراء المكاسب العاجلة ، أو النتائج الوقتية ؛ بل العبرة عندهم بالمحصلة الأخيرة ، لا يهمهم الأشخاص ، أو النجاحات الفردية ، لأن العمل الجماعي لتحقيق هدف الجماعة بعيداً عن الأضواء ، بعيداً عن الأصوات هو مقصدهم ، وغايتهم .
   لذا تراهم يحركون العالم كله كيفما شاءوا ، دون أن يكون لهم ظهور واضح مباشر .. 
هل عرفت من هم .. إنهم اليهود  .
 يحققون لأنفسهم الحقيقة ، ويبيعون لغيرهم الوهم ..
    قوم يبيعون الوهم .. وأمة تشتريه لتعيش فيه أكذوبة السلام ، والتقارب الكبرى ..!!!

حق ضعيف بين يدي ظلم مقتدر ..
   تناقلت وكالات الأنباء ، وعرضت شاشات التلفاز بقنواتها المحلية والفضائية عبر نشرة الأخبار القصة التالية ..
  رجل كان آمناً مطمئناً يسكن هو وزوجه وبناته القصر في بيت صغير يملكه منذ زمن ، استيقظ ذات صباح على صوت الجرافات وهي تهدم منزله عليه وعلى عائلته ، فخرج من بيته مذعوراً يحاول أن ينقذ بناته و زوجه من الموت تحت الأنقاض ، بيته يهدم ولا يدري سبب ذلك ، لم يتمكن المسكين من إنقاذ أي شيء من مقتنيات داره ..  فوقف أمام عدسات المصورين ، والمراسلين يبكي بحرقة ، ويصرخ بفزع محاولاً أن يعرف ما الذي يجري ، لماذا يهدم منزله عليه وعلى عائلته دون سابق إنذار ؟؟ كان يبكي كالأطفال ، والإعلام الميت الشعور ينقل الصورة بين الرجل وبناته والجرافات التي تهدم المنزل ، يرصد ذلك كله بغير مبالاة ، وفي قمة انهيار الرجل ، وأقسى لحظات ضعفه يتقدم منه أحد المسؤولين بثيابه الأنيقة ومظهره المرتب  لينهره بشدة قائلاً له : لا تبكي كالنساء كن رجلاً ، أنا أعدك بأن نعوضك بمنزل آخر في مكان آخر .!!!
 فما كان من الرجل المسكين إلا أن صرخ به قائلاً : دعني ابك ، فلن يكون لي منزل آخر ، ولا مكان آخر ، أين أبيت أنا وبناتي وقد أصبح الشارع بيتنا .. دعني أبك فلست برجل ، وليس فيكم رجل واحد . أين رجولتي وأنا لم أستطع أن أحمي بناتي ، وأدافع عن بيتي ، عن حقي ، لست برجل ، وليس فيكم رجل واحد.
     إلى هذا وأغلقت عدسات المصورين، وانتقل المذيع إلى خبر آخر . انتهى الخبر الذي لم يحرك أحداً ، ولم يثر شعوراً ، ولم يوقد حميّة .
كان المكان أرض فلسطين المحتلة ، وكانت الجرافات يهودية .
 انتهى الخبر ومات وعد المسؤول الأنيق لحظة إغلاق كاميرات التصوير . إنه وعد للإستهلاك الإعلامي ،  يباع فيه الوهم لمشتري لايملك إلا يأسه ثمناً له .
آه .. آه  ما أقسى إنهزامية الحق الضعيف أمام طغيان الظلم القوي المقتدر .
 وللحديث بقية ..  أقصد للوهم بقية ..بل بقايا..

آخر الكلام ..
ـ ليس مهماً أن تكون على الحق ؛ بل يكفي أن تكون قوياً لتملك الحق .. هذا هو منطق العصر .
_ بين الإقدام والانهزامية لحظة إحباط واحدة ، من تجاوزها مضى ،  ومن استسلم لها أغرقته في دوامة اليأس والقعود ، واجترار الوهم .

 

 

 

الإسم    
الدولة  
البريد الإلكتروني       
تقييم الموضوع  
التعليق    
رمز التفعيل


 
 
 

د. سارة بنت عبدالمحسن