كتبت في مقالات ماضية حول ضرورة بناء الوعي خصوصاً الحضاري منه, وسأتجاوز بيان الأهمية إلى الدخول في مشروع عملي يعيد هذا الوعي إلى الأذهان ويقرّبه إلى الأفهام, ويمكن تطبيقه في الميدان, ولعلي في هذا المقال أن أعرض إلى أحبابي القراء مُسوّدة هذا المشروع؛ لأتمكن من معرفة رؤاهم و نقدهم و مقترحاتهم في تطوير آلياته، ليصبح واقعاً حيوياً نتلمس آثاره في أنفسنا ومجتمعنا, ولعلي أعرض أبرز محاور هذا المشروع بشكل موجز لضيق زاوية المقال: 
أولاً: المراد بالوعي الحضاري الذي أقصده في عملي بالمشروع هو :" إعادة تشكيل الذهن، وتعميق التصور، وتنمية الفكر نحو الرسالة الحضارية للإسلام بكل شمولها للمجالات العبادية والعمرانية، وعمومها للزمان والمكان والأفراد".
فالمشروع هو أشبه بخطاب لعقل المسلم يعيد فيه قراءة الشريعة الإسلامية التي جاءت بالإشهاد على الناس من خلال سماحة الشرع، وتقدّمية أحكامه، ودوره في علاج مشكلات المجتمعات والنهوض بأفراده.
 والسبب في البدء بالوعي أولاً؛ لأن أي تحضر لأمة من الأمم لابد أن يُسبق بفكرة تنطبع في أذهان أصحابها إلى درجة الاعتقاد الجازم المفضي إلى البناء المشترك والعمران الحضاري,  وفي هذا يقول مالك بن نبي: "إن حضارة ما؛ هي نتاج فكرة جوهرية تُطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر؛ الدفعة التي تدخل به التاريخ"، وهو ما أثبته توينبي من دور عظيم للفكرة، وبالذات الدينية من أثر في تأسيس الحضارات. لذلك كان التركيز على إعادة إظهار هذه الفكرة بتوعية المسلمين بها وتعميقها في أذهانهم وأنفسهم كما نطق بها القران الكريم في قوله تعالى:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...) و في قوله سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)، وهو الدور الذي قام به عليه الصلاة والسلام في إحداث التحضر العظيم الذي أسسه في المدينة، وانطلق إلى أصقاع الأرض, وهذا الوضوح في الفكرة قد نطق به ربعي بن عامر إجابة عند سؤال رستم له عن سبب هذه الحركة التغييرية التي تقومون بها, فقال له ربعي: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى سعة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
 فالوعي هو الوقود الحقيقي لحركة العمران التي انطفأت في الأمة منذ قرون, ولابد من إشعال جذوة هذا الوعي كي يدركه كل مسلم، وينطلق من خلاله إلى الإصلاح والتغيير, فالمشروع يهدف إلى الإسهام في تنوير الوعي بهذا الدور وإصلاح الذهن لهذه الانطلاقة الحضارية.
ثانياً: دواعي القيام بالمشروع
1-    لا يخفى على أحد قوة المدّ العولمي بكل آلاته الإعلامية والثقافية و الاقتصادية والسياسية, والذي بدأ يغزو كل مجتمع ويذيب كل الثقافات والفروقات تحت تأثير أنموذج غربي ينبغي أن يسود وحده ويؤثر في الجميع, وبالتالي ظهرت أجيال من المسلمين منسلخة عن شريعتها منبهرة بعجل السامريّ, تحتاج إلى إفاقة واعية تبحث في دينها العظيم عن مكامن ثباتها واعتزازها وعلوها على سائر الأمم، بدلاً من الانهزام النفسي الذي تعيشه أجيال اليوم.
2- الضعف والانحطاط في البلاد الإسلامية في جميع الميادين الحياتية, مما جعل هناك حالة يأس في الأنفس من النهوض مرة أخرى, وحالة شك من أن نملك أدوات التحضر المنشود.
المحاولات الإصلاحية التي أغفلت التركيز على الوعي الحضاري وكون الإسلام رسالة تحمل الهداية والرحمة والتقدم للكون والإنسان، وذلك بالبدء إما بالعمل السياسي المجرد، أو العمل التراثي العلمي، أو التزكية والتحلية للنفس والروح، أو العمل القتالي كوسيلة للنهوض بالأمة, إلى غيرها من اجتهادات كانت تؤطر الدين في فلكها الخاص دون اعتبار لشمول وسعة الشريعة, ولا يزال هذا الوعي بالشريعة منحصراً في تلك الزوايا، غافلاً عن تلك المعاني الأخرى. فالمرحلة الحالية تحتاج إلى زرع الثقة بالدين وترتيب العقل المسلم وتشكيل ذهنه نحو القابلية لهذا التحضر، ودفعه إلى ميادينها المتنوعة والمتكاملة كشريعة واحدة لا كمذاهب متفرقة.
ومن المناسب هنا ذكر بعض المنطلقات الفكرية التي نستطيع من خلالها بناء هذا الوعي أو إعادة تشكيله في ذهن المسلم، وهذه المنطلقات التي سأوردها هي نوع اجتهاد مني قد أصيب فيه وقد أخطئ، ولكنها محاولة متواضعة لمعرفة أولويات المرحلة التي نعيشها وحاجتها لهذا البناء التوعوي بفهمه الحضاري الشامل، ولعل من أهم منطلقات هذا المشروع ما سأورده من نقاط موجزة:
 أولاً: تعميق الوعي بمقاصد الشريعة الإسلامية، وربط الأحكام بها، وتنبيه المسلم على دورها في توضيح الصورة المتكاملة للدين كونه طريق السعادة في الدارين. وذلك من خلال: تعظيم العبودية لله بالتدبر في آياته المقروءة والمنظورة، والتركيز على جوانب العظمة الحقيقية التي تجعل الأنفس أقرب إلى الله في كل حال بدلاً من التركيز على الجوانب العلمية في التوحيد أو أسلوب التخويف في الوعظ الذي يجعل الأنفس تجلد في لحظات ثم تعود إلى سابق حالها بعد التخويف -في كثير من الأحيان -،  وإذا كان الوعظ كثيراً ورتيباً في محتواه فقد تملّ وتكلّ هذه الأنفس، فإحياء العظمة الربانية في الأنفس له دور فعّال في تعميق العبوديّة، واستلهام الوحي، وتنظيم وحدة الفكر، وتجريد القلب من الغوائل.
كما ينبغي التأكيد على هذه المقاصد عند الإفتاء؛ بذكر العلل والحِكم من التشريع وتهذيب النفوس بالأحكام، والتيسير ورفع الحرج فيما يغلب فيه الضيق والعنت أو زيادة الحاجة إليه أو شيوعه بين الناس، مع أهمية التدرج بالمستفتين والمتلقين عند المنع وإعطائهم البديل المباح عند المنع أو التحريم، وعلى المفتي أن يدرك طبيعة دوره وأثره المنتظر في حركة العمران الحضاري المتجدد والمواكب لكل المتغيرات الحياتية.
ولكي تتعمق مقاصد الشرع في نفوس وأذهان المسلمين بشكل أكبر ينبغي للمعلمين والدارسين تعليم الأحكام الشرعية أو توضيحها على أساس الكليات الخمس بحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وجعل هذه الضروريات الخمس متبلورة في ذهن المسلم ومناهج التغيير والإصلاح، وقريبة إلى واقع كل الأفراد في المجتمع دون الغوص في تفصيلاتها الأصولية أو إشكالياتها الفلسفية.
 ثانياً: تعميق الوعي بفقه العمران الحضاري. من خلال: التأكيد على أن وجود المسلم مرتبط بمهمتين: العبادة لله والعمارة للأرض وفق مقتضيات تلك العبودية، وإعطاء العلوم والمعارف والفنون الإنسانية دورها من الاهتمام والتعلم والهيبة، وتحقيق التكامل بينها والتوازن في عرضها لبثّ العمران المادي والتقني المعاصر، ونشر أدواته بين المسلمين.
ثالثاً: تعميق الوعي بالشهود الحضاري، ولعلي أعرض هذا المفهوم العظيم من خلال الدلالات اللغوية لمعنى الشهود الذي جاء في الآية الكريمة في قوله تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...).[البقرة: من الآية143].
 فمن معاني تلك الشهادة: أن الشاهد لابد أن يكون عالماً بما يشهد به علماً يقنع الآخرين بالحجج والدلائل الواضحة. كما عليه أن يبينه ويظهره للآخرين. و يبلغه لمن يحتاجونه و ينتفعون به.  كذلك العدل والأمانة في تبليغ الشهادة، فهي من أهم صفات الشاهد المبلّغ.
وأعتقد أننا لو بادرنا بهذه المنطلقات التي هي بعضٌ من كل، لحقّقنا على المدى القريب الكثير من الفوائد على المستوى الفكري والتطبيقي للتدين أو الدعوة له،  كما نستطيع من خلال نشر هذا الوعي المساهمة في  تقليل حدّة الخلافات والمنازعات بالالتفات إلى الغايات والأهداف العليا وإصلاح أنماط التفكير الموضوعي البعيد عن الإقصاء والأحادية أو التسطيح والتهميش أو الاختزال لقضايانا أو مشكلاتنا الراهنة.
وبعد هذه المُسوّدة التي عرضت أهم أفكارها التي تدور في خلدي منذ زمن أتمنى على كل محبّ ناصح وصلت له فكرة هذا المشروع، واستوعب مرادها ألاّ يبخل عليّ في تقويم هذه الأفكار أو نقدها وتفكيكها؛ فهو المعروف الذي أرجوه من كل غيور محبّ.
 
 
 

د. مسفر بن علي القحطاني