تجار المبادئ والقيم
د. سارة بنت عبدالمحسن
زوار : 2005  -   7/2/2007
 
 

كتبت قائلة : قرأت ما كتبته عن الظلم ، وكان حديثك عنه نظرياً عاماً ، أما أنا فسأعطيك صورة واقعية ، تقدم لك  نموذجاً لأبشع صور الظلم بأبعاده الثلاثية : ظلم النفس ، ظلم الغير, وظلم الأمة ؛ هو نموذج شخصي ، لكنه يعطي بعداً عاماً ..
     يصعب على الإنسان في كثير من الأحيان ، أن يعترف بسوء تقديره ، أو بخطأ اختياره ، وبخاصة إذا ما كان هذا الإنسان ممن عرف بالحكمة ، والذكاء ، والعقل ، والاتزان  ، إلى آخره.. ولكني اعترف لك بأني أسأت التقدير ، أخطأت الاختيار ، وإني كنت في منتهى الغباء، على الرغم من ذكائي ، وعقلي ، وحكمتي ، وغيرها من الصفات التي عرفت بها ، لن أتهم القضاء؛ ولن القي تبعة عملي على القدر ، أنا أعلم بأن كل شيء يجري بقضاء الله وقدره، ولكني أعلم أيضا بأن للإنسان كسبه واختياره ،الذي هو مناط مسؤوليته ،وعليه أن يتحمل نتيجة ذلك. وإليك القصة :
كنت دائما من المؤمنات بأن القيم ، والمبادئ ، والمشاعر الإنسانية ، أصدق من أن تزيف ، وأعظم من أن تمتهن ؛ قناعتي هذه كانت مثار جدل مستمر بيني وبين من أعرف، كلهم يصرون على أن كل شيء أصبح الآن مجالاً للعبث ، وللتجارة ـ البيع، والشراء ـ حتى الدعوة إلى الله ، وهموم الأمة وجراحها ، كل شيء بلا استثناء ؛ كم رفضت هذا المنطق بإصرار وقناعة تامة ، مؤكدة بأنه لا يتاجر في شيء من هذا النوع إلا كل دعي زائف ، ومثل هؤلاء لا يحسبون على المبادئ والقيم ، فضلاً أن يصنفوا ضمن أهل الدعوة ، لأنه صنف مفضوح  لا يربطه بالإسلام إلا اسمه ؛ ولكن شاءت قدرة الله عز وجل ، أن يريني بأن مثالية قناعتي لا تنزل على الواقع .
     التقيت به ـ كنت قد سمعت عنه ، وقرأت له وعنه ـ ، رجل قيم ، ومنبع مبادئ ، علماً من أعلام الدعوة الذين طبقت شهرتهم الآفاق ، وتناقلت عباراتهم عامة الناس ، وخاصتهم . جمعتنا هموم الأمة ، ووحدة الهدف ، وشرف المقصد ـ أو هكذا توهمت ـ أسمعني أروع ، وأجمل ، وأعظم الكلمات ، وارق العبارات ، شعراً ، ونثراً ، شعارات رائعة ،  ومبادئ براقة، ومشاعر فياضة ، حاصرني بها ـ هذا هو ديدانه إذا أراد شيئاً ـ ، حتى استسلمت له، وقبلت الارتباط به ، مع علمي بأن الارتباط به يلزمني أن أتجاوز عن أشياء كثيرة تخصه ، واقبل بظروف معينة تحيط به ، وأتنازل عن قناعات كنت أؤمن بها ، وأن استعد لمواجهة حرب قاهرة ، وتخطي عقبات كؤد ، تحديت بها أهلي ، ورفضت لأجلها أعراف قومي ، وخاصمت فيها أقرب الناس ، لأجله ،لأجل الدعوة ، وجراح الأمة .
     عشت معه أياماً لم تبلغ العامين ، أقلها عذب رائع ، وأكثرها صعب مر المذاق ؛  عرفت خلالها بأنه ممن يتخذ القيم والمبادئ ، والدعوة طريقاً إلى العبث بمشاعر الناس ، وبخاصة الجنس اللطيف ! ـ رجل ظليم غره شبابه ، وأسكرته شهرته ، فحكمته نزواته، وسيرته شهواته،وحركته مصالحه ـ.
      عرف كثيرات قبلي ، أسمعهن الكلام الذي أسمعني ، وردد عليهن العبارات التي قالها لي ، وعاش معهن المشاعر نفسها. حتى أثناء ارتباطي به كان على علاقة بالعديد من النساء ـ وأنا على يقين  بأنه يفعل الشيء نفسه الآن مع امرأة أخرى ـ باسم الدعوة ، باسم المبادئ، باسم القيم ـ !؟
      قد تقولين :حبك الشيء يعمي ، ويصم . هذه حقيقة ، إلا إنها لم تحدث معي ، فقد كنت أرى بوضوح ، وأسمع بصفاء ، وأعرف كل شيء ؛ ومع ذلك فقد أوغلت في ارتباطي به ، وعمدت إلى تجاهل صوت عقلي الذي لم يستسلم لهذه العلاقة منذ بدايتها ، وتشكك في صدقها؛ أردت أن أثبت للجميع ، بما فيهم عقلي الحكيم أن الدعوة ، والقيم ، والمبادئ ، والمشاعر الإنسانية مازالت بخير ، وأن لها رجالها الصادقين ، وأن الذي رأيت ، وسمعت ، وعرفت ، زيف كله ، وهم كله ؛ كنت أصدقه ـ مع يقيني بكذبه ـ وأكذب نفسي ، بل وأكذب الواقع ، والوقائع كلها!.
     إلى هنا ، وأنا مازلت أكابر ، لأني مازلت أؤمن بأن القيم ، والمبادئ ، والمثل ، والمشاعر الإنسانية النبيلة ، إذا ارتوت من صادق الإيمان ، وأبحرت في نهر الدعوة ، لا يمكن إلا أن تكون حقيقة يقينية صادقة . فالدين التزام ، ممارسة ، فعل ، وتحقق ؛ صيغة عمل واقعي .
     لذا ، فقد وهبته عقلي ، وقلبي ، ووجداني ، وأعمق مشاعري وأصدقها ؛ بل ذاتي كلها . لقد وهبته كل شيء أجل كل شيء . ألم يجمعنا حلم واحد ، طريق واحد ، هدف واحد ، هم واحد ـ جراح الأمة ، وهموم الدعوة إلى الله ـ ؟؟!. إذاً كل شيء يهون ، وكل ألم يحتمل .
     لكنه ـ آه من لكن ـ أوقفني على حافة جرف الفراق حينما قايض ذلك كله ـ المبادئ ، والقيم، أصدق المشاعر التي جمعتنا و أعظمها ، بل واستمرارية علاقتنا ـ برزمة من الورق تسمى نقوداً !. تصوري كل شيء ينهار ، ويسقط أمام المال!! ـ أدركت عندها بأني كنت أعيش معه كذبة كبرى ـ .
     بالحزم نفسه الذي تحديت به الجميع من أجل الارتباط به ، أنهيت علاقتي به ، لكن شتان ما بين القرارين ، أحدهما كان يشرق بالحبور ، والآخر ينضح بالموت !!.
     لن أسامح نفسي لأني تركته يعبث بي ، باسم المبادئ ، والقيم ، وهموم الدعوة ، وجراح الأمة .. ولن أغفر له أبدا أنه يتاجر في أعظم ، وأنبل ما يملكه الإنسان : مشاعره : لن أنسى أبدا .. وكيف أنسى جرحاً لا متناه الأبعاد يتفجر في قلب الأمة ، وفي قلبي في آن واحد .
     ما رأيك في هذا الظلم ..؟؟ وهل يمكنني بعد ذلك أن أؤمن بمصداقية أحد ،  أو أن أثق بمشاعر أحد؟؟‍‍‍‍! ما أقسى أن تهب ذاتك لمن لا يقدرها ، وتضع ثقتك فيمن لا يستحقها ، وتعيش الصدق كله مع من يَكْذِبُكَ .
     مقتطفات من كتاب، احتفظت بالكثير من تفصيلاته الدقيقة  ـ الموجهة ـ حرصاً على خصوصية أبطال قصته .
       الحقيقة ، إن هذا النوع من التجار  يشق طريقه بخطى ثابتة ، ويلقى نجاحاً سريعاً باهراً ، لأنه يمارس تجارة لا تحتاج إلى رأس مال كبير ، ولا أرصدة في المصارف ، ولا جهد مضني ، لا تكلفه شيئاً ، وإنما يحصل هو على كل شيء ،  تجارة رأس مالها حروف الأبجدية، ومجموعة من الشعارات البراقة ، والقيم والمبادئ الملتحفة برداء الدعوة إلى الله ، تصاغ في عبارات منثورة ، أو منظومة ، تجعل قائلها رجل القيم ، وعلماً من أعلام الدعوة . هذا هو رأس مالها كله ـ كلمات ، شعارات ، دعوة ـ .
     وبعدها ، تبدأ الصفقات التي تباع فيها المشاعر وتشترى بأبخس الأثمان ؛ كلمات زائفة ، عبارات كاذبة ، مشاعر مصطنعة ، من أجل الحصول على بعض المكاسب المادية ، أو المعنوية الوقتية ، أو اللذة العابرة . وفي كل مرة تعقد الصفقة مع طرف جديد ( ضحية جديدة) ، تطالب بأن..، وأن ..، فإن عجزت لأمر ما ، لظرف ما ، ألغيت الصفقة ، وبحث عن البديل . هذا كله باسم القيم والمبادئ ، باسم الدعوة ـ  كم تظلم الدعوة ، وكم تمتهن المبادئ ، وكم تغتال المشاعر ـ ! .
     وهكذا ، ينتقل هذا النوع من التجار من زبونة إلى أخرى ، يعرض عليها بضاعتــه الزائفة( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ) آل عمران / 167                     إن بعض  هؤلاء التجار الشطّار ( المعنى الأصلي لكلمة شطّار ) قد تمرس في هذه المهنة وصار يمارسها دون تكلف ، أو عناء ، أتقن تمثيل دوره ـ الذي يكرره في كل مرة ـ  حتى بات من الصعب اكتشاف حقيقته ـ لأنه يتصرف بسجيته المصطنعة ـ
قـد يسمعونك ما يغري هواك بهم                حتـى لـترقص من أقـوالهم طربــا
فـإن نظرت إلى آفـاق أعينهم                 راعتك عينك فيما صادفت عجبا                                                                                                                                                    قـد تستذيق لساناً ملـؤه عسـل                  والعـين تحلف إن القلـب قـد كـذبا


آخر الكلام ..
أحيانا نعثر في طريق أيامنا على قطعة ماس ، يخطف بريقها أبصارنا ، ويبهر عقولنا روعة جمالها ، وحين نقترب منها لنحملها بين أيدينا بفرح العمر ، وإرتعاشة العثور ، يصدمنا زيفها، وأنها مجرد فقاعة من ذلك الكم الهائل من الفقاعات الملونة التي تملأ فضاء أيامنا ، وخدعنا بريقها ذات يوم .

 

 

 

الإسم    
الدولة  
البريد الإلكتروني       
تقييم الموضوع  
التعليق    
رمز التفعيل


 
 
 

د. سارة بنت عبدالمحسن