علاقة ما بين السلوك ومافي النفس
د. سارة بنت عبدالمحسن
زوار : 2094  -   7/2/2007
 
 

بين سلوك الإنسان العملي ، وحقيقة ما في نفسه علاقة تبادلية واضحة ؛ فسلوك الإنسان وتصرفاته نتيجة حتمية لأفكاره ، وتطبيق عملي لما في نفسه ؛ بغض النظر عن صواب ، أو خطأ ما في النفس ؛ فقد تكون القناعات النفسية والفكرية مبنية على حقائق صادقة، وقد تكون مبنية على أوهام متصورة ، ويبقى السلوك تمثيلاً عملياً لحقيقة ما يسيطر على النفس من حقائق ، أو أوهام .
وتأثير ما في النفس على السلوك يتفاوت بتفاوت قوة رسوخه ، أو ضعفها ؛ ومدى تأصله في الأعماق ، مما يجعل تصرفات الإنسان توجه من قبل هذه الأفكار بصورة آلية تلقائية ، لا يبحث معها المرء صواب هذا السلوك ، أو خطأه ؛ فهو يتصرف من منطلق القناعات التي ترسخت في نفسه .
لذا ، فقد حرص الإسلام على الربط بين أصل المعتقد وصورة العمل ( قل آمنت بالله ثم أستقم ) ـ خرجه مسلم في صحيحه ..
ومن ثم فقد كان من السمات الحقيقية المميزة للشخصية المسلمة المتزنة ، التوافق بين المعتقد والسلوك ، وبين الفكر والعمل ، وبين المنهج والتطبيق ؛ بحيث تكون مواقف الإنسان العملية ، وتصرفاته اليومية ، منبئة عن جوهر معتقده ، وفكره ؛ فالسلوك العملي ، والمواقف المتخذة ، ما هي إلا نتاج صادق لطبيعة القناعات المترسخة في أعماقه .
وبالتالي فقد كان الحكم على الأشخاص ـ دنيوياً ـ مبنياً على ظاهر العمل ، لا باطن المقصد ، لأن الحكم على النيات لله وحده ، فهو المطلع على مقاصد القلوب ( والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) سورة النحل /آية 19 ـ ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) سورة النور/آية 29ـ.

ومن منطلق هذه القاعدة الشرعية كان المسلم الحقيقي الذي ترسخ الإيمان بالله في أعماقه ، وتشبع فكره بمقاصد دينه ، وحقيقة شريعته ، يحيا التمثيل الفعلي لإيمانه بصورة  توافق بين المعتقد والسلوك ، والقناعة والموقف ، دون الوقوع في ازدواجية الفكر ، أو تناقض المواقف ، أو تخبط الفعل .
فالمؤمن الصادق ، يمارس سلوكاً واحداً ، ويطبق منهجاً خلقياً وعملياً واحداً ، ويسلك طريقاً فكرياً واحداً في أحواله كلها ، لا يخضع لمرور الزمان ، ولا تغير المكان ، ولا تبدل المصالح ، أو تأثير الأشخاص ، ولا يتغير بتغير الظروف والمواقف ؛ لأنه يستمد عقيدته ، وفكره ، ومنهجه ، وقيمه ، ومواقفه من قاعدة ثابتة لا تتغير ، هي الدين الذي ارتضاه له خالقه .
فثبات هذه القاعدة يمنحه الثقة ، ويكسبه الشخصية الثابتة المتوازنة الملتزمة ، ويحميه من جموح الهوى ، ونوازع الشيطان ، وطغيان النفس الأمارة بالسوء ؛ ويرسخ في قرارة نفسه أن حاله وأعماله وإن خفيت عن الناس ، لا تخفى عن العليم المحيط بكل شئ ( لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) سورة البقرة/آية284ـ ، ( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير ) سورة آل عمران /آية 29ـ .
وبذا، فإن المؤمن الصادق يظهر بوجه واضح القسمات ، مجدد الملامح ، متوافق الباطن والظاهر ، متميز بالفضيلة ، لا يتزحزح عن مبادئه ، ولا يتحول عن قيمه ، ولا يحيد عن طريقه ، ولا ينبت عن أصوله التي أستمد منها المعتقد ، والفكر ، والمنهج ، والعمل ، لا يذوب في غيره ، ولا يتبع هوى نفسه ، ولا يستخفي من الناس فيما هو مفضوح به أمام الله .
ولكن الملحظ العام على كثير من مسلمي هذا العصر هو : التناقض الحاد بين العقيدة التي يؤمنون بها ، والشريعة الربانية التي يتبعونها ، والقيم التي ينادون بها ، ومواقفهم العملية، وسلوكهم الأخلاقي ، وبخاصة الشخصي منها ، والتي فقدت صفة الثبات ، وصارت تتغير من حال إلى حال وفق متطلبات المواقف الآنية ، أو المصالح الشخصية ، وعلى الأخص ما كان منها بعيداً عن أعين الآخرين ـ أي المواقف ، والأعمال التي تتم في الخفاء بمعزل عن الناس ـ ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) سورة النساء /آية 108ـ ؛ وكأن الهم هنا ، هو الظهور أمام الناس بمظهر الكمال الذي يحقق القدوة ، ويحيط الشخصية بهالة براقة من المثاليات ، والالتزام المتمسك بأصول العقيدة ، والمطبق لأسس الشريعة ، مما يبهر الأبصار، ويأسر العقول ، ويسبي القلوب ؛ دون أن يكون لذلك كله أصول حقيقية راسخة في أعماق العقل والوجدان ؛ إذ لا يمكن أن يؤمن الإنسان بشيء إيماناً حقيقياً ثم لا تكون مجموع تصرفاته ، وأفعاله ، ومواقفه العلني منها ، والخفي موافقة لحقيقة إيمانه .
قد ينحرف المؤمن في بعض المواقف نتيجة لضغط الدوافع ، أو ضعف الضوابط ، أو اجتماعهما معاً ، في لحظات ضعف عابرة ، يعود بعدها إلى جادة الحق ؛ فهذا لا يدخل ضمن دائرة التناقض ، لأن الإنسان خلق من ضعف ؛ لكن الإصرار على الاستمرار ينبئ عن حقيقية ما في النفس ، وأنها تعتنق إيماناً مدخولاً ، قد يورد صاحبها موارد الخطر والهلاك ، فلا نفع لظاهر لا باطن له ، ولا قيمة لإيمان لا يمنع صاحبه من تجاوز حدود الله ، لأن الأساس إذا كان غير وثيق لم يرتفع معه بنيان ، أو يثبت ، ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) سورة آل عمران /آية 135ـ .
وما واقع المسلمين المعاصر ، بما فيه من ضعف ، وعجز ، وسلبية ، وهوان ، وانهزامية ، إلا نتيجة حتمية للتناقض الحاد ، والفصام التام بين المعتقد والسلوك ، وبين الفكرة والعمل ؛ وهذا مؤشر خطير ينبئ عن اختلال كبير في القاعدة الإيمانية ، وتصدع عميق في بنيتها الأصلية في النفوس ، مما يحتاج معه إلى إعادة ترميم ، إن لم يكن بناء جديداً يرسخ الأسس العقدية الصحيحة ، ويطبق الأحكام الشرعية في الحياة الخاصة والعامة ، ويصحح نظرة المسلمين ، وفهمهم لمضمون إسلامهم ، من أجل إزالة هذا التناقض ، تمهيداً لتغيير الواقع ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) سورة الرعد /آية 11ـ ، فتغيير ما بداخل النفس شرط ضروري لتغيير الأحوال ، وإعادة التوازن الدقيق لحياة المسلمين الخاصة والعامة .

 

 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د. مسفر بن علي القحطاني