الفعل الواعي للنصرة الحضارية
د. مسفر القحطاني
زوار : 1290  -   20/12/2007
 
 

بعد مرور أكثر من سنة على أزمة الرسوم المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنمارك , وبعد مرور أكثر من شهر على ذات الأزمة ولكن في السويد هذه المرة ، أظن أن معالم التعامل مع أبعاد وآثار هذه الأزمة أصبح أكثر عقلانية وفهم للتصرف الأمثل والدفاع الأصلح لمقام نبينا صلى الله عليه وسلم وكذلك لمقدسات أكثر شعوب الدنيا انتماءً لهذا الدين , وربما عرفنا أكثر أن الشعوب عندما تحركت بغوغائية في مرحلة من المراحل الماضية ؛ إنما كانت استجابةً لبعض الأصوات التي أثارت عواصف العواطف ولم تبالي أن هناك بين الصفوف الغاضبة ؛ الجاهل والمعاند والناقم والمغرض وأكثر من ذلك , فقطفنا من قضيتنا العادلة تصرفات لا تليق بطبيعة الغاية المحمودة من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ,كالقتل الذي حصل بين الجماهير والعسكر في كثير من البلاد الإسلامية ,وحرق السفارات, والاعتداء على الممتلكات وغيرها من حماقات أتت في سياق الشحن العاطفي من غير ضبط للمشاعر بلجام الشرع والعقل .. وأعتقد أن الأوان قد حان لدراسة هذه الحالة التي أيقظت الأمة، وأحيت ضميرها المغيّب، وأشعلت جذوة الغيرة في الأنفس بعد صدمات الذلة والانكسار. ولابد عند تأمل هذه الظاهرة أن نفكر بعيداً عن العواطف والانفعالات التي شهدتها مجتمعاتنا الإسلامية إبّان الأزمة والتركيز على الفعل الواعي والردّ الحضاري الذي سيكسب قضيتنا أنصارا جدد ونجاحات كُثر , ربما نتذكر عندها " وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا" . وأحب أن أساهم في رصد هذه الحالة من خلال تأملات خاصة، هي رجع الصدى لأفكار منثورة على صفحة هذا المقال:
أولاً: عمق المشاركة الشعبية لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كافة الفئات ومختلف الشرائح؛ إذ ضربت أروع الأمثلة في الحب والتضحية, مصداق ذلك ما شاهدناه من تحرك وعمل فاق في حجمه وأثره الدور المرتجى من النخب المثقفة في مجتمعاتنا الإسلامية؛ وهي التي تمتلك ناصية الخروج على الفضائيات أو صفحات الجرائد والمجلات. وأظن أن تلك النخب مرّت باختبار حقيقي كشف عن حجمها أو أثرها في أزمات الأمة وقضايا المجتمع الساخنة. فلا ننكر أن هناك من تماشى مع ردود الفعل الغاضبة، ونصّب نفسه إماماً للمسلمين أو قاضياً لمعاقبة المعتدين، وقد وُظِّفت تلك التصرفات عكس ما هدفت إليه نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أسلفت, وهناك من كتم رأيه في حمّى الغضب الجماهيري مع قناعته بأن تلك التصرفات الغاضبة مِن قتل وإحراق وظلم في المقاطعة لغير المعنيين تصرفات خاطئة وغير مسؤولة، لكن خوفه من غضب الجمهور و معاكسة إرادة الحشود جعله يكتم النصح الحقيقي والنظرة المعتدلة والفقه اللازم في مثل هذه الظروف, كما برز أصحاب التثاقل والتوهين لمشاعر المسلمين والمتغيظين من هبّة الغيورين؛ وصدق الله العظيم في وصفه لحالة أولئك :" لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ" [التوبة: من الآية47].
إن النخب المثقفة وأصحاب الرأي في الأمة لا يجوز لهم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وترك الشعوب تمور من الغضب اللاواعي؛ مما أفقدنا كثيراً من مكتسبات تلك الأزمة، وتوظيفها في مصالح الأمة.
ثانياً: هذا التأزّم حرّك المجتمع العالمي إلى فريق النصرة والغضب دفاعاً عن مقدسات ومعتقدات أكثر من مليار مسلم, وإلى فريق المدافعة عن حرية الرأي وحق التعبير من غير شرط أو قيد. وأثار لدى الكثير من المراقبين والمحللين إمكانية العودة لنظرية الصدام الحضاري التي بشّر بها في الغرب هنغتون وفوكوياما. وتأجّجت مشاعر المسلمين في تحميل الغرب والشرق عداوتهم الأبدية للإسلام، وكانت معطيات الصراع الديني والحضاري متوفرة في ثنايا تلك الأزمة من خلال بعض التصريحات الغربية ومحاولة إعادة نشر الرسوم المسيئة. وأظن أن صيحات بعض الخطباء والمنادين بحرب الغرب قد طغت عن تفكيك الحالة الغربية وموقفها من احترام المقدسات الإسلامية. بل أغفلت أن هناك في أوروبا وحدها أكثر من خمسين مليون مسلم أكثرهم مواطنون في تلك الدول. ونسيت الهدف الأساس من وراء تأجيج هذه النزعة الصدامية, ولا أدري: هل كان المراد منها شن الحرب على أوروبا كما شنتها القاعدة على أمريكا التي مازلنا نتحمل تبعات تلك التشنجات المتطرفة؟! ثم أتساءل: هل الغرب كله يحمل هذا العداء السافر حتى نحمّل مئات الملايين من الشعوب، ومئات المؤسسات المعتدلة تبعات ما قامت به بعض الصحف أو القنوات الإعلامية المعادية أو سفاهة بعض المسؤولين و المثقفين الغربيّين؟! وهل من العدل أن نحاكم أمة كاملة بتصرفات سفهائها، ونحن نطالبهم بنظرة العدل والإنصاف، في حين لا ننظر إليهم بها كذلك؟! ثم هل نقدر فعلاً أننا نمارس عداوة أو قطيعة كاملة مع تلك الدول في عصر لا يمكن أن نتعايش إلا بالتبادل التجاري والتقني والتحالف السياسي والعسكري، وغيرها من المشتركات الحاجية بين الشعوب في ظل انفتاح الأسواق وتهاوي الحدود بين المجتمعات؟! ثم لماذا نحسن في إلقاء اللوم على المتآمرين ضدنا، وننسى أننا صنعنا صورتنا المشوّهة في أذهانهم من خلال تصرفات بعض أبنائنا هناك أو زوّارنا إليهم؟! هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن أن نسارع في الإجابة عنها من خلال موقف عارض، أو واقع نجهل تفاصيله، أو غفلة عن إدراك المنطلقات الدافعة لهذه التصرفات والمآلات المترتبة عليها؟! والهروب من الإجابة عنها قد يكلفنا جهداً قد يحمّلنا عبء تكرار الأخطاء.
ثالثاً: تحتاج الأمة في الفتن أن ترجع لأهل العلم الراسخ والنظر الثاقب، وتحذر من الخطيب المصقع، والواعظ الجاهل الذي يشوّه الحقائق، ويغطي العقل بلهب العواطف، وقد جاء في الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قوله: "شرّ الناس في الفتنة كل راكب موضع، وكل خطيب مصقع"! ويقول الحسن البصري -رحمه الله-: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل".
ولا شك أن أهل العلم والفكر إذا اجتمعوا على أمر رشدٍ أنه أدعى إلى الصواب وأقرب إلى النجاة. وأزمة الرسوم المسيئة كانت تحتاج إلى مثل هذا الدور الذي يصنع الفعل الحضاري، ولا يخضع للانفعال الوقتي أو المعادي، ويُستثمر الحدث لصالح المسلمين، ولا يُوظّف ضدّهم. ولا يمكن أن نجد فعلاً حضارياً إلا وقد تأسس على فكرة جوهرية تنطبع على عقول الأفراد تدخلهم نحو مدارج النهضة والتقدم. وهذا الطريق الطويل الشاقّ هو الدور الذي فعله الأنبياء والرسل، وهو الدور الذي ينبغي أن يكمله ورثتهم، والسائرون على دروب نهضتهم.

 

 

الإسم    
الدولة  
البريد الإلكتروني       
تقييم الموضوع  
التعليق    
رمز التفعيل


 
 
 

د. مسفر بن علي القحطاني